أرسل لي أحدهم يستفسر عن رائحة المسك التي يشمونها من قبور شهداء القسام في مقبرة البريج، قائلاً إن الناس يقسمون بالله، أنهم حين يقتربون من القبور يجدون في أنوفهم رائحة العنبر والياسمين والزنبق، وبشكل خاص رائحة المسك التي تجعلهم قوتها يمسكون أنوفهم! قال الرجل إن الله يقول هذا عن الشهداء، واستشهد بآية البقرة 154 عن الشهداء، وقال إن معنى كونهم أحياء "أن أجسادهم تبقى غضة طرية، لأن أرواحهم تتغذى من ثمار الجنة، وهذا ما يعلل رائحة المسك ونزفهم للدم، ونمو اللحية، وتعرقهم، مع أن بعض الشهداء قد مضى على استشهادهم سنوات وعقود وحتى قرون، وهو يعلل عدم تحلل الخلايا وعدم اقتراب الميكروبات والحشرات والقوارض منها..." (كذا).
وأذكر أن طبيباً مسيحياً من ساحل سوريا، طلب مني يوماً أن أرافقه لدائرة رسمية في السعودية، وكان جديداً في العمل، فنظر إليه الموظف وصرخ به: أنت مسيحي، عليك أن تسلم! ثم التفت إليّ وقال يا دكتور إن معجزة علمية كشفت في بريطانيا، وهي أن جثث المسلمين يمكن تمييزها من جثث الكافرين، وذلك من خلال لون الجلد! ثم تأملني ليسمع تعليق الأطباء على الكشوفات التشريحية. قلت له: بدون مجاملة، إن ما تقوله ليس من العلم، وليس أبأس من قضية ناجحة يدافع عنها محام فاشل؟ وهذا ليس نصراً للإسلام بل رمياً بالغيب وليس له أرضية علمية؛ فأمسك الطبيب المسيحي بيدي يناشدني "ضبط" لساني حتى ينهي معاملته!
والحقيقة أن تحلل الجثث قانون عضوي، يخضع له جميع البشر أياً كان مقامهم ومعرفتهم ونسبهم، كما جاء في محكم التنزيل عن تعجب الكافرين من عودة الحياة إلى الأجساد بعد أن تكون قد تحولت إلى عظام وتراب!
وهنا يناقش القرآن ليس حفظ الأجساد، بل تحولها جميعاً إلى تراب. وهو أمر جعلني مع موت زوجتي أفكر فيه طويلا، وأنه جميل أن يجتمع المرء مع من يحب بعد أن يتحول إلى الموت والبلى، وهنا هداني عقلي عبر العلم، إلى أن كلا منا هو برنامج كمبيوتري لا يزيد ولا ينقص، من تجمع سبعين مليون مليون خلية، وهذا البرنامج إذا دفع إلى المصنع، فتراكبت المادة، ثم صعق بالكهرباء مرة أخرى يمكن أن ينهض نفس الإنسان من جديد، وهو السر الإلهي، فإذا أضيفت له البرامج التي دخلها في الحياة، وقفَ مستوياً على قدميه خلقاً آخر، "قالوا تلك إذن كرة خاسرة"، أو هكذا خيل للكافرين!
والنتيجة التي نخرج بها أنه ليس من إنسان خالد، وأن كل جسد يناله التحلل. وهو أمر اشتغل عليه الطب الشرعي والذي بامكانه أن يحدد كيف مات المرء وبماذا ومتى؟ وفي أي مرحلة من التحلل هو؟ وعظام كولمبوس حين نبشت لم تحدد هويته التي تقاتلت عليها ثلاث أمم هي الطليان والبرتغال والإسبان.
ومن العجيب أن الجسد الذي يتسمم بالزرنيخ، يحافظ على نفسه بدون تحلل، فلقد فتح قبر نابليون بعد موته بـ14 سنة، من أجل نقل رفاته إلى فرنسا، فصعق القوم حين رأوا رأسه أصلع وجسده سليماً كاملاً، كما كان مع الحلاقة الأخيرة حين أوصى بشعره لمن يحبه، وهو أمر اشتغل عليه طبيب أسنان سويدي، من أجل معرفة الظروف الغامضة لموت نابليون، ليهتدي إلى موته غيلة بالسم وبالزرنيخ، وعلى نحو بطيء، ومن أقرب الناس إليه... وكتب التاريخ عجيبة ومليئة بالمضحكات المبكيات. ولو فتح قبر نابليون الآن في "مقبرة العظماء" (فاليد) لربما كان جسده كما مات، وهو لا يعني قداسة أو نذالة، بل قوانين عضوية في حفظ الأجساد. فلينين الطاغية مازال جسده محنطاً لم يؤكل من دابة الأرض، كما أن مومياء رمسيس الثاني الفرعون الذي طغى في الأرض وأكثر فيها الفساد، ما زال شاهداً على قوة الطب أيام الفراعنة في حفظ الأجسام، وكانوا محاربين لله ولرسوله والمؤمنين.
هذا كان من قصص الجان والشهداء وأجسادهم عند المؤمنين بالسحر والجان والطلاسم والأيقونات...
وبعد أن كتبت ما كتبت أرسل لي أخ فاضل من غزة، ومن مقبرة البريج، يكذب الخبر، لكني كنت قد علمت ذلك بدون خبره؛ أي بالعلم والعقل.